الاسترجاع الفني أو ما يعرف بالفلاش باك – flashback إحدى تقنيات السرد الروائي، التي كثيرًا ما يلجأ إليها الكاتب لاستدعاء أحداث خارج الخطّ الزمني للقصة، لدفع الحبكة أو تعميق الشخصيّات.
ما هي تقنية الاسترجاع – فلاش بلاك في السرد الروائي؟
تتحدث الدكتورة آمنة يوسف في كتابها القيّم ’’تقنيات السرد في النظرية والتطبيق‘‘ عن تقنية الإرجاع الفني فتقول:
’’مصطلح روائي حديث يعني؛ الرجوع بالذاكرة إلى الوراء البعيد أو القريب. وقد سيق هذا المصطلح من معجم المخرجيين السينمائيين، حيث بعد إتمام تصوير المشاهد، يقع تركيب المصوّرات، فيمارس عليها التقديم والتأخير، دون أن يكون بعض ذلك نشازًا، طالما يظلّ الإطار الفنيّ لعرض القصة محترمًا. والاسترجاع في بنية السرد الروائي الحديث، تقنية زمنية تعني؛ أن يتوقف الروائي عن متابعة الأحداث الواقعة الحاضرة في السردّ، ليعود إلى الوراء، مسترجعًا ذكريات الأحداث والشخصيات الواقعة قبل، أو بعد الرواية.‘‘
وبسطًا لشرح د. آمنة يوسف يمكننا أن نقول أن الاسترجاع الفني يعني أن يتوقف الروائي عند نقطة في الحاضر لشخصياته أو أحداثه، ليستدعي من الذاكرة أحداثًا أو شخصيات لها علاقة بهذه النقطة، سواء قبل النقطة التي بدأ منها الرواية أو بعدها.
فإذا قلنا أن حياة الشخصية/ الأحداث في القصة الحقيقية بدأت كالتالي (أ – ب – ج – د)، وبدأ الكاتب روايته من النقطة (ب)، فالاسترجاع الفني يعني حينئذٍ أنّه قد يتوقف قبل الوصول إلى النقطة (د) ليحكي لنا أحداثًا أو يستدعي شخصيات من النقطتين (أ) أو (ج) أو كلتاهما معًا.
أنواع الاسترجاع الفني – فلاش باك
من المفهوم السابق يميل النقاد إلى تقسيم الاسترجاع الفني (فلاش باك) إلى ثلاثة أنواع:
الاسترجاع الخارجي: استدعاء أحداث وقعت قبل النقطة التي بدأ منها الروائي قصتّه.
الاسترجاع الداخلي: استدعاء أحداث وقعت بعد النقطة التي بدأ من الروائي قصته
الاسترجاع المزجي: يمزج بين النوعين السابقين، فتارة يستدعي الروائي أحداثًا أو شخصيات من فترات زمنية سابقة على نقطة بدء القصة، وتارة يستدعي أحداثًا وشخصيات وقعت بعد بدء القصة.
وظائف الاسترجاع الفني (فلاش باك) في بنية الرواية
يعدّ الإرجاع الفني إحدى التقنيات الزمانية في السردّ، وتستخدم لأهداف خاصة بنمو الحبكة وتعميق الشخصيات.
وتوظف تقنية فلاش باك لتحقق أهدافًا مثل:
- ملء الفجوات عن حياة الشخصيات التي لم تتطرق إليها الرواية، مما يعمق معرفة القارئ بها، ويكشف عن قصتها الخلفية.
- الكشف عن أسباب قديمة للصراع الذي تخوضه الشخصيات لم يطلع عليها القارئ.
- إخفاء المعلومات اللازمة لزيادة الإثارة، ثم الإفصاح عنها تدريجيًا في فصول متأخرة.
كيف تميز بين عرض القصة الخلفية وبين الاسترجاع الفني؟
رغم أن الاسترجاع الفني إحدى تقنيات عرض القصة الخلفية للشخصيات، فإنها تختلف عن البقية في نقطة جوهرية واحدة.
فالاسترجاع الفني (فلاش باك) يعني تحديدًا أن تمنح القارئ مشهدًا من الماضي في شكل مسرحيّ، وليس مجرد الإشارة إلى أحداث وقعت في السابق بشكل عارض.
تقول نانسي كريس:
يعطينا الإرجاع الفني مشهداً من الماضي في قالب مسرحي لزمن القصّة، فيصيب فيه الحوار والحركة والأفكار وكل شيء آخر بحيث نشعر وكأننا موجودون على مسرح الأحداث.
مثال على فلاش باك أو الاسترجاع الفني في الكتابة
’’يمد كمال يده أخيراً فيمسك بيدي، يضعها بين كفيه. إبهامه على معصمي، على نبضي.«تشاجرنا ذات يوم، ماك وأنا. لست أذكر سبب تلك المشاجرة. كنا نفعل ذلك من حين لآخر ـ مجادلات صغيرة تتحول إلى مشاجرات... لا عنف جسدي... لم يكن فيها شيء بهذا السوء. لكن أحدنا كان يصرخ على الآخر، وكنت أهدده بأنني سأتركه، أو كان يخرج من البيت أحياناً ولا يعود إلا بعد يومين». «كانت أول مرة يحدث فيها هذا بعد ولادتها. المرة الأولى التي يغضب فيها ويتركني. كان عمرها بضعة أشهر فقط. وكان الماء يتسرب من سقف البيت. أذكر هذا: صوت الماء المتقطّر في دِلاء وضعناها في المطبخ. كان الجو شديد البرودة، متجمّداً؛ وكانت الريح تهبّ قوية من جهة البحر. المطر مستمر منذ أيام. أوقدت ناراً في غرفة المعيشة، لكنها كانت تنطفئ كل مرة. كنت في غاية التعب. كنت أشرب حتى أشعر بالدفء، لكن ذلك لم ينفعني، فقررت أن أذهب إلى الحمام. أخذت ليبي معي. وضعتها على صدري. كان رأسها تحت ذقني تماماً». تغدو الغرفة أكثر ظلمة، ثم أكثر ظلمة... حتى أصير هناك من جديد، مستلقية في الماء، جسدها منضغط على جسدي، وشمعة يتراقص ضوؤها خلف رأسي مباشرة. أستطيع سماع لهب الشمعة يطقطق، وأستطيع شم رائحة الشمع والإحساس بالهواء الصقيعي حول رقبتي وكتفَيَّ. أحس أنني ثقيلة... جسدي يغطس في الدفء. إنني مرهَقة، مستنزَفَة. وفجأة، تنطفئ الشمعة... أشعر بالبرد من جديد. برد حقيقي... أسناني تصطك في فمي... جسدي ينتفض كله. أحس بأن البيت يهتز أيضاً، والريح تزعق، تنتزع قرميد السقف. «غرقت في النوم...». أقولها ثم لا أستطيع قول شيء آخر لأنني أشعر بها من جديد؛ «لم تعد راقدة على صدري... كان جسدها منحشراً بين ذراعي وحافة الحوض... كان وجهها في الماء. كنا باردتين تماماً، كلتانا». مرت لحظة لم يتحرك خلالها أي منا. لا أكاد أستطيع النظر إليه؛ لكني أفعل أخيراً فلا يشيح بعينيه بعيداً عني. لا يقول أي كلمة. يضع ذراعه حول كتفَيَّ ويشدّني إليه .....‘‘
* رواية فتاة القطار – باولا هوكينز
نصائح حول استخدام الاسترجاع الفني في كتابة الرواية
مثل أغلب التقنيات السردية يعد الاسترجاع الفني سلاحًا مزدوج الأثر، فإمّا يساعد الكاتب على إضفاء مزيد من الطبقات إلى روايته ويجعلها أكثر إثارة، وإمّا يصبح عقبة أمام اندفاع القارئ في عملية القراءة.
ولهذا ترى نانسي كريس في كتابها ’’تقنيات كتابة الرواية‘‘ - يمكنك الاطلاع على ملخصه من مكتبة الروائي – أن الإرجاع الفني قد يفقد الأحداث ’’الفورية‘‘ لأنه وقع في زمن أقدم مما تعيشه شخصيات القصة.
ولذلك لا ينصح باستخدام الفلاش باك قبل أن يتعمق القارئ في حاضر أحداث الرواية، أو قبل ثلاثة فصول على الأقل منها.
ومع ذلك فإنّه في كثير من الأحيان إذا استخدم الاسترجاع الفني بالطريقة الصحيحة، فإنّه قد يكون مفيدًا جدًا في تعميق الشخصية، واظهار دوافع الصراع.
قواعد استخدام الفلاش باك في كتابة الرواية
- أوجد سببًا منطقيًا لاستدعاء الأحداث أو الشخصيات
- أوجد سببًا منطقيًا للعودة إلى الخطّ الزمني للأحداث
- أوجز في كتابة مشهد الاسترجاع الفني
- تأكد أن مشهد الفلاش باك يخدم الحبكة أو الشخصيات
- لا تفرط في استخدام مشاهد الاسترجاع الفني
- اختر إطارًا زمنيًا مقبولًا
- تعرّف على تفاصيل الماضي الذي تحكي عنه
كيف تستخدم الاسترجاع الفني بالتفصيل
القواعد السبع السابقة مجرد أساسيات تضمن للكاتب أن يكون الفلاش باك عنصرًا داعمًا لقوة السرد في الرواية، وليس معيقًا لاندماج القارئ في الأحداث الحاضرة.
أوجد سببًا منطقيًا لاستدعاء الأحداث أو الشخصيات
تقفز الذكريات إلى الحاضر عندما يحركها مثير ما في الحياة الواقعية، وهكذا يجب أن يحدث الأمر في القصة.
فالقارئ حينما سيفاجئ ببروز أحداث قديمة من حياة الشخصيات تقطع عليه تسلسل الأحداث الحالية، عليه أن يعرف لماذا حدث ذلك؟، ما الذي أيقظ هذه الذكرى دون غيرها في عقل الشخصية الروائية؟، ماذا رأى؟، ماذا سمع؟، ماذا شمّ؟، ماذا لمس؟، ماذا تذوق؟.
هناك شيء ما يدفع الشخصية إلى التذكر والتفكير في الماضي، ربما حدث جديد يحفز حدثًا قديمًا مشابهًا، وربما غير ذلك!.
في المثال السابق من رواية فتاة القطار، كان المحفز للشخصية الروائية لاسترجاع ذكرياتها القديمة، ’’رغبتها في الاعتراف‘‘، كانت تريد أن تزيح ثقلًا عن كتفيها للشخص الذي تحبّه، فأخبرته عن هذه الحادثة القديمة.
فكّر قبل استخدام تقنية الفلاش باك في البوابة التي ستمر منها الذكرى، هل رأت الشخصية الروائية إنسانًا يشبه شخصًا تعرفه؟، هل كانت تفتش في خزانة ملابسها فعثرت على فستان الزفاف فتذكرت سعادتها في بداية الزواج؟، هل تناولت طعامًا حريفًا فتذكرت والدها الذي كان يعشق الأكل الحارّ؟.
أوجد سببًا منطقيًا للعودة إلى الخطّ الزمني للأحداث
نحن نخوض في ذكرياتنا العميقة بكل حواسنا، حتى أننا قد ننشغل عمّا يدور حولنا، ونحتاج إلى مثير جديد ليعيدنا إلى الواقع.
وهذا ما تحتاجه الشخصية الروائية بعد أن تنتهي من الاسترجاع الفني، أو الفلاش بك، تحتاج إلى مثير يقطع عليها الذكرى، ويعيدها إلى حياتها الحاضرة.
يمكن للكاتب أن يمزج الصورة الأخيرة في الذكرى بالصورة الأولى للعودة إلى الواقع.
فإذا كانت الشخصية الروائية قد استعادت ذكرى حادثة سيّارة مثلًا، فيمكن للكاتب أن يدخل إلى المشهد صوت مكابح أو بوق سيارة لتستعيد الشخصية انتباهها، ويعرف القارئ كذلك أن الذكرى قد انتهت، وها قد عدنا إلى الحياة الواقعية.
ومع ذلك فهناك العديد من المثيرات الأخرى التي توجه القارئ إلى انتهاء الفلاش باك، ففي المثال السابق على الفلاش باك، شعرت ’’ميغان‘‘ بحبيبها الذي اعترفت له يضع ذراعه على كتفيها، ويضمّها إليه، فخرجت من الماضي إلى الحاضر، وفهمنا نحن – كقراء – أن الفلاش باك قد انتهى.
أوجز في كتابة مشهد الاسترجاع الفني
تقوم الرواية في أساسها على ’’التكثيف‘‘، والإيجاز الذي يجعل لكل كلمة أو حتى لكل علامة ترقيم في القصة دور.
وإذ كان التكثيف ضروريًا في سرد الأحداث الحالية التي تحمل في باطنها الإثارة والتشويق، فإنّه أوجب عند سرد الأحداث الماضية التي يعرف القارئ أنها انتهت بحلوها ومرّها.
لا تفرط في استخدام مشاهد الاسترجاع الفني
لا يمكن للكاتب أن يستمر في تداعي الذكريات ما لم تكن الرواية قائمة في الأساس على هذه التقنية، كأن تكون رواية عن شخص يحتضر، فيتذكر حياته الماضية كلها، أو عن شخص فقد ذاكرته ويستعيدها تدريجيًا كما في رواية ’’قبل أن أخلد إلى النوم‘‘.
أمّا في أغلب القصص الأخرى، فإن الكاتب يحرص على استدعاء الذكريات الضرورية لكشف نقاط محددة عن الشخصية، أو لدفع الحبكة والأحداث.
ومن هنا فإن الإفراط في استخدام الأحداث الماضية في أغلب القصص، سوف يكون عائقًا للقارئ عن تقدم القراءة، سيكون أشبه بالفواصل الإعلانية في الأفلام كما تقول نانسي كريس، مما يجعله يفضل إغلاق الكتاب، أو تخطّي الصفحات.
احرص على أن تكون انتقائيًا جدًا في الأحداث الماضية التي تضمنها في قصتك، وأن تذكر فقط ما تظنّ أن تجاهله سوف يربك القارئ أو يفقد الرواية منطقها.
تأكد أن مشهد الفلاش باك يخدم الحبكة أو الشخصيات
تقنية الاسترجاع الفني أو فلاش باك ليست مقصودة لذاتها، بل إذا استطاع الروائي تجنبها فعليه ذلك.
وهذا يقودنا إلى أن استخدام هذه التقنية الهدف منه خدمة القصة في الأساس. لذا يجب أن تستخدم لتظهر القصة الخلفية للشخصية التي تشرح دوافعها أو عواطفها، وتخلق صلة منطقية بين سلوكيات الشخصية في الحاضر، وما عانت منه في الماضي.
كما يمكن استخدامها لتضفي مزيدًا من التشويق أو التوتر إلى أحداث الرواية، وتكشف عن غموض صاحب أحداثًا معينة، ضللت القارئ في الصفحات السابقة للقصة.
اختر إطارًا زمنيًا مقبولًا
لا يمكن أن يستغل الكاتب تقنية الفلاش باك ليستعرض مدة زمنية طويلة في حياة شخصيته، أسبوعًا أو شهرًا أو سنة مثلًا!
فالهدف من تقنية الاسترجاع الفني أن تستدعي ’’حادثة‘‘ أو ’’موقفًا‘‘ محددًا له تأثير على أحداث الرواية.
لذلك فليس من الحنكة الفنية أن يغطي الفلاش باك زمنًا طويلًا يعطّل السرد، ويخرج القارئ من مناخ الرواية وجوّها العام الذي انغمس فيه القارئ.
اختر دائمًا حوارًا أو حادثة أو موقفًا مقيدًا يمكن أن يساعد الحبكة على التطور أو الشخصية على الانكشاف.
تعرّف على تفاصيل الماضي الذي تحكي عنه
لمّا كان الاسترجاع الفني قائم على استحضار الماضي، فإن على الكاتب أن يكون ملمّا بهذا الماضي بجميع تفاصيله.
وهنا يجب أن يتعامل الكاتب مع المفردات الخاصة بالماضي مثل (المكان/اللغة/الملابس/الثقافة السائدة/إلخ) بدقة شديدة.
إذا ليس من المقبول أن تستدعي عجوز في التسعين من عمرها ذكرى قديمة في شبابها، فتستخدم مفردات الحياة اليومية الحالية، أو مفردات لغوية لم تكن قد استحدثت بعد، أو ملابس لم تكن مألوفة في ذلك العصر.
لكل ذكرى خصوصياتها التي تظهر في مفرداتها التي يجب أن ينتبه لها الروائي وهو يكتب مشهد الفلاش باك.
في النهاية .. إذا شعرت أنك تكثر من استخدام مشاهد الفلاش باك في روايتك، فربما قد بدأت القصة من نقطة غير صحيحة. عليك التفكير قليلًا، وإعادة التمركز.