معرفة أنواع الراوي في الرواية يحدد بشكل كبير طريقة السرد، فلكل راوٍ وجهة نظر مختلفة يحكي من خلالها الأحداث، والعواطف والأفكار.
وقد تتعثر كتابة الرواية بعد عشرات الصفحات لأن المؤلف أساء اختيار الصوت الذي يحكي قصته.
لذا، فإن الإلمام بأنواع الراوي في الرواية، وطريقة عمل كل نوع، سوف يساعد الروائي ليس فقط في المضي قدمًا بنصّه إلى النهاية، وإنما أيضًا التواصل الفعال مع القارئ.
الراوي = وجهة النظر
تستخدم كلمة الراوي غالبًا بالتوازي مع كلمتي (وجهة النظر- POV)، وهما تعنيان الصوت السارد الذي تحكى من خلال عينيه ومشاعره وعقله أحداث القصة.
ويختلف توظيف الراوي أو وجهة النظر حسب هدف الكاتب، ورمزية هذا الصوت.
فأحيانًا، تحكى الرواية على لسان إحدى شخصياتها الرئيسية، وأحيانًا على شخصية شاهدة لكنها ليست في بؤرة الأحداث، وأحيانًا على لسان مجهول يعلم ما يحدث لكنّه ليس شخصية مادية ضمن شخصيات العمل.
ما هي وظيفة الراوي في الرواية؟
الراوي صوت ينقل للقارئ ليس فقط الأحداث الخارجية، وإنما يصف في كثير من الأوقات أدق المشاعر، وأعمق الأفكار التي تدور وتتصارع في أعماق الشخصيات.
وهذا الصوت ليس شرطًا أن يكون ’’أمينًا‘‘ فينقل كلّ ما يقال بحيادية ونزاهة!، وذلك لأنه في الأساس يعبر عن ’’وجهة نظر‘‘ صاحبه.
فمن الشائع في الروايات أن يقنن الراوي ما يقوله للقارئ، فيظهر أمورًا ويخفي أخرى، كما أنه يتحكم في ’’متى‘‘، وكيف‘‘ يخبر القارئ بالمعلومة.
فقد يتعمد الراوي إخفاء معلومات في القصة لتضليل القارئ، أو لمفاجئته، أو لانحيازه لإحدى الشخصيات، أو لدفع القارئ لتبني قناعة معينة.
وهنا، لا بد أن نميّز بين ’’الراوي = وجهة النظر‘‘ الذي يروي القصة، وبين المؤلف الذي كتب النصّ!!
فالراوي ليس المؤلف الذي كُتب اسمه على غلاف الكتاب، وإنما هو مجرد أداة استخدمها المؤلف لبناء نصّه.
أنواع الراوي في الرواية
- الشخص الأول
- الشخص الثاني
- الشخص الثالث
أنواع الرواة في الرواية بالتفصيل
يجب أن نفهم الراوي في الرواية على أنه المنظور السردي الذي يرى القارئ من خلاله الأحداث، ويلاحظ سلوك الشخصيات وطبائعها.
الرواة في الرواية هم الذين في أيديهم جهاز الميكروفون، وهم المسموح لهم – دون غيرهم – بالحديث المباشر وغير المباشر مع القرّاء.
وربما، نشبه الراوي في القصة بالمعلق الرياضي على مباريات الكرة أو الملاكمة أو المنافسات الأخرى، فكلاهما ينقل للمتلقي (القارئ/المشاهد) ما يحدث، بل ويتطوع لإضافة المعلومات أحيانًا، أو يتداخل برأيه وعاطفته الشخصية في أحيان أخرى.
وهناك تقسيمات عدة لأنواع الراوي في الرواية، لكننا أجملناها في هذه الأنواع الثلاثة الرئيسية، وما قد يندرج تحتها من فئات فرعية.
السرد بطريقة الشخص الأول
الكتابة باستخدام وجهة نظر الشخص الأول تعني بإيجاز (الكتابة باستخدام ضمير المتكلم سواء كان للمفرد أو المثنى أو الجمع).
كأن يكتب المؤلف مثلًا ’’عدتُ إلى قريتي بعد نحو عام من الغياب‘‘، أو ’’عدنا في سيارة مستأجرة إلى الفندق، بعد أن تحولت نزهتنا إلى تجربة مخيفة‘‘، أو ’’كنّا نعدو في خط مستقيم، لا نرى أمامنا سوى ظلال بيوتنا تتراقص كالسراب بين أفاعي النار‘‘.
لماذا يستخدم المؤلف راوي الشخص الأول؟
يلجأ الروائي إلى وجهة نظر الشخص الأول دون غيرها من أنواع الرواة في الرواية عندما يريد للقارئ أن يتماهى ويندمج مع الشخصية الساردة.
وكأن القارئ عندما يقرأ الأفعال بصيغة المتكلم، سيتقمص شخصية السارد في عقله اللاواعي، ومن ثمّ سيكون أكثر تأثرًا بما تشعر به الشخصية، وما تمر به من أحداث، وما يدور في عقلها من أفكار.
يشيع استخدام راوي الصوت الأول أو الشخص الأول عندما يكون لدى الكاتب شخصية ذات حياة داخلية ثرية، أو تعاني صراعات ’’جوانية‘‘، أو أن ما يدور في أعماقها لا يقل أبدًا عمّا يدور في العالم الخارجي من اشتباكات ومعارك.
مميزات السرد بالصوت الأول
- الارتباط الفوري بين الشخصية والقارئ
- تماهي القارئ مع الشخصية
- قوة نقل أفكار وعواطف الشخصية
- يسهل على المؤلف بناء التوتر لمحدودية معلومية الشخصية
عيوب السرد بالصوت الأول
- محدودية قدرة المؤلف على تقديم شخصيات أخرى
- الصوت الأول راوي غير موثوق، يعرض الأمور من وجهة نظر شخصية
- إذا لم تكن الشخصية مثيرة، وجاذبة للقارئ فسينفر من استكمال الرواية
روايات كتبت براوي الصوت الأول
- المريضة الصامتة، ألكس ميكايليديس
- حكاية الجارية، مارجريت أتوود
- لا تقتل طائرًا محاكيًا، هاربر لي
- عداء الطائرة الورقية، خالد حسيني
السرد بطريقة الشخص الثاني
الكتابة باستخدام وجهة نظر الشخص الثاني تعني بإيجاز (الكتابة باستخدام ضمير المخاطب سواء كان للمفرد أو المثنى أو الجمع).
كأن يكتب المؤلف مثلًا ’’ذهابك إلى حفل الزفاف كان خطئًا، فأنت تعرف أنك لن تحتمل رؤيتها بجوار رجل غيرك‘‘، أو ’’انخراطكما في هذه العلاقة سام من البداية، فأنتما شخصان مختلفان تمامًا‘‘، أو ’’لا تقولوا أنكم لم تسمعوه يبكي ليلة بعد ليلة، لا تزعموا أنكم تجهلون ما مرّ به من محن وابتلاءات‘‘.
استخدام وجهة نظر الشخص الثاني، وبناء الرواية على صيغة خطاب موجه ليست شائعة في عالم الرواية، ومع ذلك قد تستخدم بشكل جزئي داخل النصّ.
فقد استخدمها كاتب روايات الجريمة المصري محمد حياه في روايته ’’اعترافات جثة‘‘، فصدّر روايته قائلًا ’’قاتلي العزيز، نعم أنت قاتلي. فعندما تقوم بطي غلاف تلك الرواية وتشرع في قراءتها تصبح الآن قاتلي ولست قارئًا لكلماتي.‘‘
ولأن وجهة نظر الصوت الثاني ليست عملية بدرجة كبيرة لكي تكتب بها رواية كاملة – في ظنّي – فإن الكاتب استكمل نصّه بالسرد بالصوت الأول والثالث.
مميزات وعيوب السرد بالصوت الثاني
من مميزات استخدام وجهة نظر الصوت الثاني في حكي القصة أنه يجعل من القارئ شخصية من شخصيات العمل، فيقتحم عقل القارئ وقلبه، ويوحي إليه أنه يعرفه تمام المعرفة، بل وقادر على إظهار أسراره التي يخشى إطلاع الناس عليها.
وهذه الميزة هي نفسها العيب القاتل في السرد بالصوت الثاني، فإذا لم يكن القارئ المخاطب في الرواية يحمل بعضًا من الأسرار أو الصفات التي يراهن عليها الكاتب، فلن تحدث عملية التوريط في النصّ، وسيقرر القارئ أن المؤلف يخاطب شخصًا غيره، وربما صرفه ذلك عن متابعة القراءة.
بالإضافة إلى أنها وجهة نظر محدودة أكثر حتى من راوي الصوت الأول، مما يحد من قدرة المؤلف على عرض نماذج لشخصيات متباينة في نصه.
السرد بطريقة الشخص الثالث
الكتابة باستخدام وجهة نظر الشخص الثالث تعني بإيجاز (الكتابة باستخدام ضمير الغائب سواء كان للمفرد أو المثنى أو الجمع).
كأن يكتب المؤلف مثلًا ’’لم تردّ الأم دولاجي، لم يبد أنها سمعت تهديده، كانت عيناها متحجرتين على القيود الحديدية في أيدي صغارها، على رؤوسهم المعفَّرة بالتراب، وملابسهم الممزقة من ضرب السياط، بحثت في وجوههم عن الضحكات المجلجلة التي أطلقوها في الصباح، أين ذهبت؟، السكينة التي غشيتهم في حقل والدهم، أين غابت؟ كيف كبروا فجأة؟ هل خادعت الزمن أم خادعها؟‘‘ – من رواية ’’خبز الربّ‘‘.
لماذا يستخدم المؤلف راوي الشخص الثالث؟
يستخدم المؤلفون عادة وجهة النظر الثالثة لسرد قصصهم لأنها تنطوي على عديد من التقنيات التي تمكنهم من رواية الحكاية من مسافات متباينة من الشخصيات.
فهناك الراوي العليم الذي يعرف عن الشخصية أكثر مما تعرفه عن نفسها، ويمكنه أن يخبر القارئ عن أحداث وقعت قبل ميلاد الشخصية، بل يمكنه أن يصحح للشخصية مشاعرها وعواطفها ودوافعها، إذا أخطأت في تفسيرها!
وهناك الراوي المحايد الذي يروي ما يراه فقط بعينيه، ولا يتدخل ليشرح للقارئ خطأ الشخصية في تفسير دافع أو عاطفة، وإنما يكتفي دائمًا برصد ما يحدث أمامه وكأنه كاميرا تسجل فقط ما يقع أمامها دون إضفاء أي طابع شخصي.
كما أن الراوي العليم (الصوت الثالث) يمكن أن يكون ساردًا عن شخصية واحدة أو عديد من شخصيات الرواية، يقفز في عقل هذا وفي قلب ذاك، يسافر شمالًا وجنوبًا ليزود القارئ بما يحتاج إليه لاستكمال القصة.
هذا التنوع يغري الكاتب باستعمال الصوت الثالث، وبخاصة أنه قابل للتطويع إلى أكثر من صيغة داخل النص الواحد.
مميزات السرد بالصوت الثالث
- إمكانية التنقل بين عديد من الشخصيات
- يثري النص بوجهات نظر مختلفة ومتباينة
- يسمح بعرض عديد من الحبكات الفرعية
- يرفع سقف التوتر والإثارة
- زيادة فضاءات الرواية/أماكن وقوع الأحداث
عيوب السرد بالصوت الثالث
- قد يضعف تواصل القارئ لتشعب الأحداث
- قد يضعف اندماج القارئ مع شخصية بعينها لتعدد الشخصيات
- غياب فكرة الراوي غير الموثوق
روايات كتبت بالصوت الثالث
- شوق الدرويش، حمّور زيادة
- خان الخليلي، نجيب محفوظ
- خبز الرب، محمد السنوسي
- كالماء للشكولاتة، لاورا إسكيبيل
كيف تختار وجهة النظر/السارد المناسب لقصتك؟
كما ذكرت في أول هذه التدوينة، فإن الاختيار بين أنواع الراوي في الرواية من أساسيات كتابة الرواية، ويجب على المؤلف أن يوليها اهتمامًا كبيرًا.
في البداية، يجب عليك أن تسأل شخصيات روايتك، من منهم يستطيع أن يحكي القصة أفضل من زملائه؟
أكتب اسماء الشخصيات بما في ذلك الشخصيات الثانوية، وتمعن فيمن لديه الفرصة ليقدم وجهة نظر فريدة وعميقة حول الأحداث وبقية الشخصيات.
في بعض الأحيان قد تسرد شخصية هامشية القصة أفضل من بطل الرواية، وبخاصة إذا كان لهذه الشخصية الثانوية القدرة على التوغل في بيئات لا يصل إليها البطل رغم أنها تؤثر فيه.
ففي راوية ’’ غاتسبي العظيم‘‘ وهي من كلاسيكيات الأدب العالمي، اختار الكاتب الأمريكي فرنسيس سكات فيتزجيرالد أن يسرد الأحداث جار البطل، ويدعى ’’نك كاراويه‘‘ وذلك لأنه سيكون أكثر بصيرة من بقية الشخصيات في ملاحظة النفاق المجتمعي، والاختلال السلوكي لهؤلاء.
كيف أحدد المسافة بين السارد العليم وبين الشخصية؟
السارد العليم يمكن أن يكون كليّ المعرفة، محيطًا بدقائق الأمور وخباياها، ومع ذلك يمكن أن يكون مجرد ناقل للسلوكيات ومسجّل لها.
وتحديد المسافة بين السارد العليم وبين الشخصية يعتمد على أسلوب الكاتب، فالبعض يفضل أن يحكم على التفاصيل ليتحكم في خيال القارئ وقناعاته، والبعض يرى أن منح القارئ مجالًا للتفكير والاستنتاج أولى لأن ذلك يجعله أكثر تفاعلًا مع النص.
هل يمكنني استخدام أكثر من سارد في الرواية؟
بالطبع، تعدد الأصوات الساردة من الأمور الشائعة في الروايات الحديثة التي توصف دائمًا بأنها ديمقراطية، تسمح لكل شخصية بعرض وجهة نظرها.
فيمكنك على سبيل المثال كتابة الرواية بأصوات الشخصيات الرئيسية، كما فعلت الكاتبة ’’غيليان فلين‘‘ في روايتها ’’فتاة مفقودة‘‘.
فقد كتبت فصول الرواية بالتناوب مرة بصوت الزوج ومرة بصوت الزوجة.
كما أنه يمكن أن تمزج في الرواية بين أصوات السرد الثلاث (الأول/الثاني/الثالث)، شريطة ألا تشوش على القارئ، فيصعب عليه التمييز بينهم.