"إنهُ وادِي العُيون..."
هكذا افتتحَ "عبد الرحمن منيف" روايتهُ
"التيه" بل هكذا استهلَ ملحمةَ خماسيةِ "مدن الملحِ"..
لازلتُ أَذكرُ أَول جملةٍ من الروايةِ، فقد طبعتْ في ذاكرتي منذُ أَن قرأتُها
لأَولِ مرةٍ قبلَ 14 عامًا.
كيفَ يُمكنُ لنا أَن نصيغَ العبارةَ الأُولى من روايةٍ
نكتبُها؟ بل كيفَ يُمكنُ أَن نُقنعَ القارئ باستكمالِ القراءةِ منذُ فصلِ البداية؟
الاستهلالُ الروائي بصفةٍ عامةً يلعبُ دورَ المُقدمةِ
التي ستُمهدُ لأَحداثَ النصِ، وهناكَ من يعتبرُها بأَهميةِ النهايةِ لذلكَ يجبُ
أَن تكونَ قويةً، دافعةً للقارئِ، ومن بينِ أَشكالِ الاستهلالِ نجدُ التاريخي أَو
المُرتيطِ بتقديمِ شخصيةٍ ما، والوصفي.
رغمَ أَنهُ منَ
الُمبالغِ القولُ أَن فصلَ البدايةِ هو الذِي سيحددُ قابليةِ قراءةِ الروايةِ من
عدمها بالنسبةِ للقارئِ، لكن عمليًا وواقعيًا هذا صحيح، وهذا ما يجعلنا نطرحُ
سؤالًا اخر هل من الضروري أَن يكون فصل البدايةِ مُبهرًا؟ مُشوقًا؟ خاصة إِذا كانت
الرواية من صنفِ الجريمةِ والتي منَ المُتوقعِ لها أَن تكونَ مُشوقة.
كيف تكتب مقدمة رواية الجريمة؟
هناكَ عدة طرقٍ لاستهلالِ رواية جريمةٍ ما من أَجلِ جذبِ
المُتلقي الذِي يبدو في عصرنَا هذا أَكثرَ استعجالًا وانشغالا، لذلكَ منَ الصعبِ
إِرغامُهُ على مُتابعةِ فكِ لغزِ رواية جريمةِ إِن كانتْ من بدايتها تبدو "جافة"،
ورغمَ تعددِ طرقِ صياغةٍ الفصولِ التمهيديةِ لتبدو جاذبة لكنْ يبقى استعمالُ
الجملُ السرديةِ الصادمة والمُراوغةُ والغامضةُ من أَفضلِ عباراتِ الفصولِ الأُول
خاصةً إِن قدمَ الطبقُ مع مشهدٍ باردٍ أَو دموي يحتوي على عباراتِ القتلِ
والجنائزِ.
لذلكَ نرصدُ في هذا المَقالِ أَهم صيغِ الاستهلالِ
الروائي في الأَدبِ البوليسي الحديث والقائمِ تحديدًا على جملةِ قراءاتِي:
صمتُ القبرِ
"حينَ أَخذها منَ الطفلةِ التِي تمُصُها وهيَ جالسةٌ على
الأَرضِ، عرفَ فورًا أَنها عظمةٌ تعودُ لإنسانٍ" هذهِ أَولُ جملةٍ منَ
الروايةِ الثالثة "صمتُ القبرِ" للكاتبِ الايسلندي "ارنالدو
اندريداسون"، جملةٌ قويةٌ صادمة على رأسِ الفصلِ الأَولِ من الروايةِ التِي فازت بجائزة غولد
داغر المقدمة من طرفِ الجمعية البريطانية لكُتاب روايات الجريمةِ .. أُسلوبٌ
اتبعهُ عدةُ كُتابٍ غيرهُ.
غضب
نفس الكاتب ينهي الفصلَ الأَول من روايتهِ "غضب"
بحدثٍ صادمٍ مُغايرٍ لما انتظرهُ القارئ وفقَ ما أَوحتْ له الصفحاتِ الأُولى ففي
الوقتِ الذي كانَ ينتظرُ العثورَ على جثةِ فتاةٍ تم تخديرُها في منتصفِ أَحداثِ
الفصلِ يسردُ الراوي حدثًا مُختلفًا "رأَت الينبروغ "(المحققة) جثة
شابٍ ممدةٍ على أَرضيةِ غرفةِ الجلوسِ، بنظالهُ حولَ كاحليهِ ولا يرتدي شيء
باستثناءِ قميص تي شيرت مضرجة بالدِماءِ تحملُ كلمتيْ سان فرانسيسكو وتنمو زهرة
خارجَ الحرفِ فاء". على نفسِ
المنوالِ تقريبًا تنهي كاميلا لاكنبرغ الفصل الأَول من روايتها
"الأَيادي الموهوبة" بقولها "لن تصدقَ ذلكَ، لكنْ
لدينا عظامٌ هنا، وجمجمتانِ. بالنظرِ إِلى مقدارِ العظامِ، أُخمنُ في الوَاقعِ
أَننا أَمامَ هيكلينِ ادميينِ".
الشبح
في روايتهِ الشبح يصفُ جو نيسبو في
الفصل الأَولِ حركةَ فأرة تحومُ حولَ جثة طازجة باحثة عن طعامٍ لصغارها الجياعِ
قبلَ أَن تُسرد الأَحداثُ على لسانِ الجثةِ وهيَ تتلقى اخر رصاصةٍ في نفسِ الوقتِ
الذي قرعَ فيه جرسُ دارِ العبادةِ. 3 صفحاتٍ كانتْ كافية من أَجلِ جذبِ انتباهِ
وفضولِ القارئ: لمن الجثة؟ كيفَ قُتلَ ولماذا؟ هذا ما سيعرفهُ بعدَ اتمامِ
الروايةِ.
التنين الأَحمر
في رواية "التنين الأَحمر" لتوماس
هاري المُعربة من قبلِ المرحوم أَحمد خالد توفيق يبدأ
الفصلُ الأَول بمشهدٍ افتتاحي شهير ومألوف يتمثلَ في تلكَ اللحظةِ التي يدعو فيها كراوفورد
البطل ويل جراهام للمُساعدةِ في تحقيقٍ حولَ مقتلِ عائلاتٍ كاملةٍ
من قبلِ شخصٍ مُختلٍ. شاهدنا نفسَ المشهدِ في فيلمٍ ومُسلسل بنفسِ أَسماءِ شخصياتِ
الروايةِ.. واستعانةُ محققٍ برتبةٍ أَعلى لمُحققِ برتبةٍ أَقل من أَجلِ حلِ لغزِ
قضيةٍ صعبةٍ أَصبحَ من الكليشيهاتِ المُتعارفِ عليها في الكثيرِ من الرواياتِ حيثُ
يتركُ البطلُ حياتهُ المملة الهادئة ليعودَ لحياةِ ألفها سابقًا وتركها لسببِ ما
نكتشفُه مع مرورِ الصفحاتِ.
بدايات مختلفة لرواية الجريمة
شخصٌ ما يأتي إِلى البطلِ الذي يكونُ في الغالبِ محققًا
خاصًا أَو صحفيًا من أَجلِ أَن يطلبَ منهُ التحقيقَ في موتِ شخصٍ قريبٍ أَو في حالةِ اختفاءِ حبيبٍ هيَ أَيضًا من الطرقِ
التي اتبعتها بعضُ الفصولِ التمهيدةِ في عدةِ رواياتٍ، مثلَ رواية "هذا كل ما
تستحقهُ" لليابانية يوكو ميابي وروايتيْ "نداء الكوكو" و"دودةُ
الحريرِ" لروبريرت غاليبرث.. حيثُ يكونُ القارئُ شغوفًا بتبينِ أَهدافِ
القريبِ من هذا الطلبِ، والحقائقِ المُحيطةِ بالمُختفي أَو الميتِ.
لا يُمكننا هنا تتبعُ كلِ طرقِ الاستهلالِ في أَدبِ
الجريمةِ فهيَ مُتنوعة لكنَ أَغلبُها يصبُ في إِطارِ الجريمةِ ومُشتقاتها، إِن
كانت الجريمةُ حصلت قبلَ أَحداثِ الروايةِ بسنواتٍ، أَو ستحصلُ بعدَ عدةِ فصولٍ
مُتقدمةٍ من الروايةِ.. إِن كانَ اسلوبُ جذبِ القارئ لفخِ القراءةِ عبرَ جملةٍ
قويةٍ صادمةٍ أَو عبرَ فصلٍ غامضٍ مثيرٍ إِلا أَنها كلها تنجحُ بلا شكٍ في دفعِ
الفضولِ لدى المُتلقي لأَعلى درجاتهِ.
هل تتذكرونَ رواياتٍ أُخرى (أَجنبية أَو عربية) انطبعت
في ذاكرتكم تحملُ بين طياتها افتتاحيات استثنائية أَو جاذبة؟