كقارئة وجدتُ نفسي منبهرة منذُ سنواتٍ سابقة بروايةِ "شيفرة دافنشي" لدان براون"، انبهاري لم يكن مرتبط بالحبكةِ أَو صعوبة اللغزِ وحلهِ فقط بل بكميةِ المعلوماتِ التاريخيةِ والعقائديةِ التي قدمها لنا كاتبُ التشويقِ الأَول في العالم كحقيقةٍ في اطار رواية جريمة غامضة لها علاقة بمنظمة عالمية سريةٍ وسرٍ غريبٍ مكتشفٌ في لوحةِ الجوكندة.
الهدف
الأَساسي من قراءة روايات الجريمة دون شك هو الاستمتاع لكن إِلى أَي مدى يُمكن أَن
نستفيد من قراءتها بعيدًا عن الثراء اللغوي؟ متى نجزمُ أَن روايةً ما احتوتْ على
معلوماتٍ تاريخيةٍ أَو عرفتنا على فترةٍ
سياسيةٍ أَفضلَ من أَيِ كتابٍ اخر مُختص؟
لا يخلو
أَيُ عملٍ ابداعي يهدفُ للإمتاع من جانبٍ معرفي دسم، كقراء لمختلفِ أَصنافِ
الرواياتِ نلاحظُ تنامِي ظاهرةَ مزجِ
المُتعةِ والتشويقِ عندَ القراءةِ ببعضِ المعلوماتِ المُوزعةِ في صفحةٍ أَو
اثنتينِ أَو في عدةِ صفحاتٍ في الروايةِ
ويبدو هذا أَوضح في كتبِ الجريمةِ المُعاصرةِ مع تغلغلِ وظهورِ أَصنافٍ جديدةٍ أَو
التي لم تأخذ حضها من قبلُ ضمنَ هذا الصنفِ مثل الرواية القانونية أَو الجنائية
أَو حتى تلكَ المُتعلقة بالجريمةِ الدُوليةِ.
ضرورة
التقصي عند سرد المعلومات أَفضى بدون شك إِلى زيادة البحث في مصداقية المعلومات
الطبية والتاريخية والقضائية المطروحة في كتبِ الجريمةِ، لم نعد نقرأ لمُجردِ
القراءةِ بل تجاوزنا ذلكَ لمرحلةِ التأكدِ من صحةِ المعلوماتِ التِي ذكرتْ بينَ
صفحاتِ الروايةِ.
روايات جريمة غربية جمعت بين الإثارة والإثراء المعلوماتي
من
لم ينبهر بكمية المعلومات عن لندن في روايات روبيرت غلبورث (الاسم المُستعارُ
لكاتبة سلسلةِ هاري بوتر جي كي رولينج)؟ يقال أَنهُ لا يمكن قراءَة رواياتها دون أَن
يكون أَمامكَ جهاز حاسوب مفتوح على صفحة قوقل لتشاهد شوارع المدينة وأَسماءها
وتفاصيل محطة كينجر كروس ومقاهيها ومحلاتها ومبنى 12 بار كافيه ذو الواجهة
السوداء.
شكلت رواياتُ كاتي رايكس التي كانت تعملُ في الشرطةِ العدليةِ الكنديةِ نقلةً نوعية في أَدبِ الجريمةِ لتميزِ صنفها فهيَ تعتمدُ على تفاصيل الطب الشرعي وعلم الأنثروبولوجيا الطبيعية أَو الحيوية (علم الإنسان) في بناءِ قضايا رواياتها مثل "عظام عارية" و"قرارات قاتلة" هذا النجاحُ مكنَ الروائيةَ من تحويلِ رواياتها إِلى مسلسل جريمة ناجح من عدة مواسم بعنوان "بونز" (عظام). رواياتُها تحتوي على معلومات دسمة حد التعقيدِ عن علم الأنثروبولوجيا وخاصة علم وظائف الجسمِ والتشريحِ ودراسةِ العظامِ.
أَثارت
الرواية الثانية لدان براون زوبعة عالمية فور انتشار صداها في العالمِ فقد طرحت روايةُ
"شيفرة دافنشي" بالإضافة إِلى المعلومات المتعلقة بالفن التشكيلي
والهندسة أَسئلة عقائدية وتاريخية تبحثُ في حلِ قضيةِ جريمة تطرح أَسئلة بدورها عن
علاقة الكأس المُقدسة بمنظمة سرية وتنظيم فرسان الهيكلِ.. وربما ليسَ من الغريبِ أَنَ دان براون أَنهى
الرواية كحلم لكي لا يتعرض عمله للمساءلة العقائدية أَو النقد التاريخي رغم أَنه بالفعلِ
رُفعت ضده عدة قَضايا بمن قبلِ الكنيسةِ المسيحيةِ وخاصة الفاتيكان والعديدِ من
المُتدنيينَ بسبب التلفيقاتِ والأكاذيب التي ادعى أَنها حقيقية في كتابهِ الذي أَسال الكثيرَ من الحبرِ وظلَ لسنواتٍ
محلَ جدالٍ في العشراتِ من البرامجِ المتلفزة.
روايات جريمة عربية جمعت بين الإثارة والإثراء المعرفي
بالنسبةِ
لرواياتِ الجريمةِ العربيةِ أَعتقدُ أَن رواية المغربي "عبد المجيد
سباطة" الملف 42 من بين القلةِ التي تطرقت في متنها إِلى معلوماتٍ تاريخيةٍ
واقتصاديةٍ حقيقيةٍ حصلت في المغرب في فترةِ الستيناتِ وبعيدًا عن الجانب الخيالي
في الروايةِ إِلا أَن ملف 42 اعتمد بدوه على معلوماتٍ من مصادرَ قديمة.. الرواية
غنية بأَفكار واقتباسات من كُتاب اخرين لكن الذي جذبنِي أَكثر هو احياء قضية
الزيوت المسمومةِ 1959 والتحدثُ عن أَحداث عالمية مثل حادثة احتجاز الرهائن من قبل الشيشانيين في موسكو 2002
ومذبحة ثانوية كولومباين التي حصلت سنة 1999، أَنا شخصيًا لم أَكن على معرفةٍ
بهذهِ الأَحداث لهذا كنتُ أستعينُ في كلِ مرةٍ بقوقل لأَتوسعَ أَكثر.
لا
يُمكنني هنا ذكر كلِ الرواياتِ التي شدتني بالتفاصيلَ القيمةِ والمعرفيةِ التي
احتوت عليها لكن لا أَيُمكنُ أَن أَنسى روايات التركي أَحمد أُوميت الذي قدمَ لنا
تُركيا واسطنبول وتاريخها أَفضل من أَيِ كاتبٍ آخر، ولا جون غريشام أَب الرواية
القانونيةِ حتى أَصبحَ البعضُ يتهمُ روايات الجريمةِ الحديثة بالخروج عن قَواعدها
وتكثيفِها الجانب المعلوماتِي حتى أَضحت تشبهُ إِلى حد ما المقالات العلمية
والتاريخية والعقائديةَ.
ما
هو رأيُكَ في ذلكَ؟ هل تُفضلُ روايات الجريمةِ الخاليةَ من المعلومةِ أَو تريدُها
دسمةً بالمعلومات؟ أَم أَن الروايةَ يجبُ أَن توفقَ بينَ بين عرضِ المعلوماتِ
(التاريخيةَ، السياسيةَ، الطبيةَ والقانونيةِ) ومقاييسِ ومُتطلباتِ الروايةِ المألوفةِ؟